الجمعة، 20 يوليو 2012

شاى بحليب - خريف



يُحس بالثقل على ذراعه الأيسر .. انفاس هادئة بالقرب من وجهه .. رائحه طفوليه معطرة تتسلل لأنفه

لم يعد هناك مجال للشك ..

 انه حفيده الاثير و قد اختار ان يوقظه بطريقته التقليديه

يصعد على كتفه الايسر و يستغرق فى تأمله  .. هذه هى طريقة الصغير فى ايقاظ جده

يلتفت الجد فى حنان الى حفيده و يداعب انفه الدقيق بأرنبة  أنفه الضخم

لطالما كانت هذه الحركة المفضلة لديه فى مداعبة من يحبهم ، ثم يأخذه فى حضنه الواسع


يعلم ان الطفل الصغير ينتظر استيقاظه بفارغ الصبر فقد وعده ليلا انهم سوف يخرجون فى الصباح الباكر بدون علم زوجته ليأكلا سويا المثلجات و التى تمنعها عن كليهما

لربما لم ينم الطفل منذ الفجر من فرط الاثارة و الترقب .. تحركا بهدوء لكيلا يوقظا الجدة التى ترفل فى النوم .. يرتدى الجد سريعا ملابسه و يطبع قبلة حانيه على جبين الجدة

يأخذ حفيده من يده ويتسللا فى هدوء



خمسة عقود كاملة تفصل الجد عن حفيده .. لكنهم الآن ينظرون الى بعضهم البعض و تتلألأ فى عينيهما نفس ابتسامة الاثارة و فرحة ان تختلس بضع لحظات من السعادة المُحرمة 


الخريف موسم الحب الدافئ ..

يتطلع الجد الى الشجر الذى ازدان بالورق الاصفر الجاف

 يداعب وجهه نسمات باردة فيحكم ربط الكوفيه حول رقبته  .. يستمع الى وقع خطواته على الورق المتساقط .. انه يعشق الخريف يرى فيه نفسه بين الدفء و الرياح المفاجئة


يحتضن الجد يدَ حفيده الرقيقة فى رفق .. يعلم  كم يشعر الصبى الصغير بالسعادة .. هو يعلم أيضا بحكم سنين عمره الستون التى حفرت تجاعيدها على وجهه ان افضل المتعة هى التى حُرِمتَ منها


ينظر الصغير الى جده ويتبسم .. كم تسعده فكرة المغامرة و السر المشترك الذى يحمله هو و جده بعيدا عن الناس ..

يعجبه دائما وصف جدته اياه بأنه نسخة من جده خاصة و هو يحمل نفس عينيه القويتين و الرفيقتين .. تمر بعض النسمات فيرى الاوراق الصغيرة تطير فى الهواء و تلتف حول نفسها ..  يتشبث بيد جده بقوة و يطمئن


انهما الآن يعبران الشارع يقع متجر المثلجات على بعد ناصيتين .. و كلما اقتربا كلما زاد احساسهما بالسعادة و الاثارة

يتقدمان عبر الرصيف يكاد الجد لولا المهابة يهرول جريا مسابقا حفيده لمحل المثلجات لكن وقاره يمنعه فيمسك بيد الصغير جيدا فالوقار لا يمنعه من ان يمنع الصغير ان يسبقه ينظران لبعضهما و يبتسمان ابتسامة ذات معنى

ينظران امامهما ليتوقف الجد فجأة ..

يتوقف الطفل رغما عنه نتيجة لتوقف الجد المفاجئ يندهش لكنه يرى جده يحدق فى سيدة كبيرة السن



يتوقف المشهد للحظات تتحول ملامح الدهشة على وجهى الجد و السيدة من الاندهاش الى الابتسام تمتد ايديهما للتصافح .. تتلامس التجاعيد فى كلتا اليدين ينظران لبعضهما .. هل حقا دارت بنا الحياة و السنون حتى اصبحنا هنا ؟؟

تبتسم عينى الجد فى سلام لقد مر وقت طويل

 تجيبه ايماءه خفيفة من رأس السيدة موافقة على كلامه


عينيها كما هى رغم مرور السنين مازالت شقيه تموج بالحركة و لا تهدأ ابدا .. ما تزال تلك الغمازتين تضئ و جهها كلما ابتسمت و تضفى على وجهها مرح لم يذبل

مازالت ملامح وجهه الهادئة تضئ  كلما ابتسم وقد اعطت التجاعيد وجهه وقارا كان يفتقده..عينيه البنيتان مازالتا كالبحر الهادئ لا تشف ابدا عما يدور بداخله و الاهم من وجهة نظرها مازالتا تستيطعان ابتلاع كل من ينظر اليهما


نسمات الخريف الباردة تلامس وجهيهما فى هدوء فتتهدل خصلة من شعره الفضى على جبينه و يتطاير وشاحها الابيض

يملآن صدرهما من النسمات المحيطة يغمضان اعينهما للحظات ..

ينتبهان ليديهما اللتين لا زالتا ممدودتين .. فيطلقان سراحهما


تحين منها التفاته للطفل الصغير فتداعب وجهه بأناملها وتمسح على رأسه .. تنحنى لتصبح فى مستواه وتنظر الى عينيه ثم الى عينى جده ..

 رباه .. نفس العينين

بدا و كأنما سرحت فيهما للحظات ثم عادت واقفة مرة اخرى


لطالما ادهشته عينيها الجريئتين اللتين تستطيعان التكلم دائما و قول اصعب الكلمات فضلا عن اقتحامك و اكتشاف ما بداخلك


-كانت تواجهه  وصوت فيروز يعلو كيفك انت ؟


تسلقتها عينيه و تجاوزتها للمكان الذى خرجت منه فالتفتت لترى الذى ينظر اليه .. ابتسم .. مازالت محتفظها بعادتها

ضحكت ضحكة صغيرة .. قالت : شاى بحليب :)

انها لا تبدأ يومها ابدا بدونه ابدا قد تظل طوال اليوم يداهمها الصداع لأنها لم تأخذ حصتها اليومية من ذلك المشروب السحرى


تعود نظراتها الجريئة لتهاجمه فيحبسها فى عينيه الهادئتين

تبحث عن اجابة لسؤال تعرف اجابته مسبقا ... حب واحد .. حياة واحدة لامرأة واحدة


ينظر الجد للطفل الذى بدأ يتململ .. انهم يؤخرونه عن متعته

يرفع عينيه اليها و يبتسم لأنها تفهمه


- شو بدى بالاولاد الله يخلى الولاد .. كيفك انت ؟


مازالت تغتنم اللحظة وتجد كل فى لحظة الفرصة التى لن تأتى ثانية ابدا .. مازالت مندفعه فى حبها و كراهيتها غضبها  و حنونها و قسوتها

ومازال هو يهب قلبه لامرأة واحدة يعشقها .. ومازال لم يغفر 


يتحرك الموقف المرتبك يمسك الطفل يد جده و يشده للأمام ليتقدما ينظر الجد للسيدة نظرة معتذره عليه ان يوصل الطفل

تبتسم ابتسامه مغتصبه و تلوح بيدها

يسيرين مفترقين


لقد تحققت نبؤته و تلاقيا فى خريف العمر

لقد تحققت مخاوفها ولم يلتقيا



بترجع عراسي رغم العيال و الناس

إنتا الاساسي و بحبك بالأساس

بحبك انت

ملا انت



أحمد فارس

27/6/2012

هناك تعليقان (2):

  1. رائعة .. مُبكية :(
    حاوية لمرارة و عذوبة و بقاء الحب

    ردحذف